من الغريب ان يهاجم من تستشعر النفس الطائفي بين سطور ما يكتب من يصفهم بالطائفيين ! فتراهم يخلطون الحابل بالنابل في شؤون التاريخ والعجيب ان هذا التاريخ ليس ببعيد ومن يتذكر تفاصيله ما زالوا أحياء يرزقون فيقتطعون منه أجزاءا ويذرون أخرى بما يتلاءم ومهجة نفوسهم في بعث المظلومية تلك التي عشعشت في رؤوسهم قرونا طوال وما عادوا قادرين على التخلص منها إن وجدت وإن لم يجدوها خلقوها في مخيلتهم لتسترسل أقلامهم مرتاحة في بناء أفكار ظلامية على أسس واهية كبيت العنكبوت ... ففي مقال لعلاء اللامي بعنوان ( من أجل هزيمة الطائفيين !) جعل ركيزة مقاله حادثة وقعت بين باني التعليم في العراق ساطع الحصري وشاعر شاب في بدايات كتاباته هو محمد مهدي الجواهري والتي جعل منها دليلا على الطائفية في الدولة العراقية بداية تاسيسها في وقت كان وزير المعارف آنذاك هو عبد المهدي المنتفجي ( والد عادل زوية) فعن أية طائفية يتحدث كاتبنا اللامي ؟
كنت قد جلست أمام الكيبورد لأرد عليه فوجدت خلال تصفحي ردا جاهزا بهرني بحسن صياغته وجودة مدلولاته وعظم اصوله ومستنداته فلم أجد بدا من استعارته وعرضه عليكم .. إنه مقال لكاتبه الاستاذ كريم على مدونته الغراء (دربونة) بعنوان (من أجل هزيمة المظلومية) أضعه بين أيديكم ....
من اجل هزيمة المظلومية ... كتبه كريم في مدونته (دربونة)
" التشكيك بأصول الخصم السياسي تقليد أوجده القوميون العرب والبعثيون منهم بخاصة، يعتبر ساطع الحصري من أوائل مستعمليه حين شكك بأصول الشاعر العراقي محمد مهدي لجواهري واتهمه بالعجمة والأصل الفارسي في وقت كان فيه الجواهري يتبوأ إمارة الشعر العربي ويلقبه طه حسين " برب القوافي".. هذه الجملة وردت في مقال علاء اللامي "من أجل هزيمة الطائفيين" الذي نُشر يوم امس.
ساترك جانبا الجزء الاخير من الجملة الذي يقول ان الجواهري كان يتبوأ آنذاك إمارة الشعر العربي .. ففيه من احتقار لعقول الناس ما يكفي لركنه في خانة الهوسات .. اكتفي فقط بالقول ان الجواهري آنذاك كان في مقتبل العمر وهو لم يكن معروفا .. والرصافي والزهاوي كانا اكبر مكانة منه واوسع انتشارا آنذاك.. فمن اين جاءته اذا امارة الشعر العربي .. قليل من الاحترام لعقول الناس لا يضر.. ولكن ليس هنا المهم.. ما يستوقفني في جملة اللامي هو الجزء الاول منها .. اللامي يريد هزيمة الطائفيين ولكنة يستخدم اكاذيب المظلومية التي هي اساس الخطاب الطائفي .. فحادثة الخلاف بين الجواهري وساطع الحصري هي واحدة من اكثر الهوسات التي ردحت بها الابواق الطائفية كدليل على طائفية الدولة العراقية.
قول اللامي بان الحصري اتهم الجواهري بالعجمة والأصل الفارسي هو ببساطة كذب ومن النوع المحتقر لعقول الناس .. حادثة الخلاف بين الحصري والجواهري لها روايات كثيرة .. وتأويلات اكثر.. احدى الروايات تقول ان الحصري رفض تعيين الجواهري لانه يحمل الجنسية الايرانية ..الحصري طلب من الجواهري ان يتخلى عن جنسيتة الايرانية .. ولكن الجواهري رفض ذلك .. من هنا رفض الحصري تعينه بوظيفة في وزراة المعارف .. حتى في هذه الرواية فان الحصري لم يتهم الجواهري بالعجمة والاصل الفارسي .. الحصري لم يقل للجواهري" انت فارسي" كما يقول اللامي .. ولم يقل له انك شيعي ولا يحق لك التعيين في وزارة المعارف .. الحصري طلب منه فقط ان يتخلى عن الجنسية الايرانية والحصول على الجنسية العراقية.. وهذه تهمة الحصري في "محاكم التفتيش" اللطمية .
حجة حكواتية المظلومية هي التالية : كيف لـ سوري كساطع الحصري ان يطلب من الجواهري ذلك .. كيف للحصري الذي ينطق العربية بلكنة تركية ان يطلب من الجواهري ذلك .. وهنا ايضا، فان قول اللامي بان الحصري كان من اوائل من استعملوا "التشكيك بأصول الخصم السياسي" هو كذب وقلب للحقائق التاريخية .. فاللطميون هنا، وليس الحصري، هم من استخدموا "التشكيك بأصول الخصم السياسي".. فهم قد حولوا سؤال اداري روتيني تقتضيه قوانين دولة ناشئة .. الى تهجم على اصل الحصري السوري .. و ذهبوا حد التشكيك بعروبته لانه يتكلم العربية بلكنة تركية .. وكما يقول موسى الحسيني في مناقشته لهذه الرواية ، في مقال "الشيعة والحكم في الدولة العراقية الحديثة" فان الحصري هو من تعرض للابتزاز في هذه الحادث .. وموسى الحسيني هو عراقي شيعي ونجفي .. وليس وهابي او قومجي.
مشكلة حكواتية المظلومية هو انهم يدخلون الماضي بعقلية المتبضع في السوق .. ينتقون من احداث الماضي ما يناسب طبخة المظلومية فقط .. لذلك فان ايراد بعض المصادر ضروري .. وليام كليفلاند كاتب سيرة الحصري يقول ان الحصري خاض خلافات كثيرة خلال تجربته كمشرف على وزارة المعارف لانه كان مهنيا جدا ولا يتحمل جهل منتقديه في مجال التعليم .. ريفا سيمون تقول انه قد اختلف مع سامي شوكت ومع محمد فاضل الجمالي ومع المستشارين البريطانيين كـ المستر فاريل والمستر سميث وفرض على البريطانيين رؤيته في التعليم .. والمستر فاريل قد استقال نهائيا بسبب خلافه مع الحصري .. والمستر سميث قد استقال اكثر من مرة لنفس السبب ولكنه عاد وعمل من جديد مع الحصري .. و ريفا سيمون تقول ان خصومه البريطانيون، رغم خلافاتهم الشديدة معه، كانوا يقدرون قيمته ومعرفته الهائلة في مجال التعليم وهي تورد ما يقوله عنه المستر سميث :
No other Iraqi combines his enthusiasm, his experience and knowledge of education system, and his fearlessnesses. In, Reeva Simon, The teaching of History in Iraq before the Rashid Ali Coup of 1941
"لم يكن هناك في العراق من يجمع حماسته وجرأته وخبرته ومعرفته بنظام التعليم" .. الحصري كان صارما لانه كان يعتقد ان التعليم هو اساس الدولة .. يفشل التعليم تفشل الدولة .. وهذه العصامية كانت لا تعجب واحد من افسد الوزراء آنذاك واكثرهم استهتارا بالمصلحة الوطنية، وهو عبد المهدي المنتفجي (والد عادل عبد المهدي سارق المصارف !!) .. ذلك ان هذا الوزير كان يطلب من الاساتذة بتزويد طلاب شيعة فشلوا في الامتحانات بالشهادات .. وهذا ما ترويه المس بيل في إحدى رسائلها الى أبيها :
I then spent an hour listening to the woes of Mr Farrell, Director of Education, who has come into serious collision with his Minister, the only Shi'ah in the Cabinet. Poor Mr Farrell! what are you to do with a Minister of Education who when a Shi'ah student fails to pass an examination writes to the examiner and directs him to provide him with a diploma! Letters of Gertrude Bell, 6 December 1921
وهذا ما كان يرفضه الحصري .. علينا ان نتذكر ان خلاف الحصري مع الجواهري حصل خلال الفترة التي كان فيها المنتفجي وزيرا للمعارف .. وموسى الحسيني يقول في مقالته ان المنتفجي كان يريد من خلال مبالغة خلافه مع الجواهري وتلوينه بالطائفية ان يبتز الحصري ..باختصار الحصري كان شديدا مع كثيرين لانه كان مهنيا .. وخلافه مع الجواهري هو واحد من خلافات كثيرة خاضها حفاظا على جودة النظام التعليمي .. وهو تحليليا نموذج للخلاف بين ثقافتين .. ثقافة التكنوقراط وثقافة المحسوبية.. الوزير المنتفجي اراد تعيين الجواهري بالمحسوبية .. والحصري رفض تعيينه لانه لا يحمل شهادة.. وكل ما جرى بعد ذلك هو تأويل طائفي : الجواهري سلاح في المعركة .. معركة المظلومية.
وعود على بدء .. لا نريد منكم ان تهزموا الطائفيين.. ولا نريد منكم ان تهزموا الطائفية .. فالطائفية لا يمكن هزيمتها بالهوسات .. اهزموا المظلومية في نفوسكم اولا، ستهزم الطائفية السياسية.. اهزموا المظلومية النائمة في "لاوعيكم" ثم تعالوا بعد ذلك وتكلموا عن الوطنية .. فالعراق الحديث بناه اشخاص كـ ساطع الحصري .. نعم بناه التكنوقراط .. وليس الشعراء الرداحة .. من هنا .. فبين شاعر قدّاح مدّاح .. وبين تكنوقراطي .. نختار التكنوقراطي ..وبين قصيدة "تحرك اللحد" (**) التي أسست لثقافة الانقلابات والحبال والسحل .. وبين " دار داران دور" .. نختار" دار داران دور" الكتاب الذي علم ملايين الاطفال العراقيين .. لسنا بحاجة الى شاعر راح في ارذل العمر يطرق ابواب السلطان مادحا "ابن الهواشم" بعد ان مدح قبل ذلك من قاموا بقتل "ابن عمه" في العراق .. مثل هكذا ثقافة ليست جديرة بالاحترام .. خذوا ألف شاعر قدّاح مدّاح كالجواهري .. واعطونا واحد من مثل ساطع الحصري.
كتبها كريم (عن مدونة دربونة)
(**) قصيدة للجواهري يؤسس فيها لثقافة السحل بالحبال أيام كان شعار (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة) هو السائد في العراق أثناء المد الارهابي الاحمر عام 1959مخاطبا عبد الكريم قاسم ... يقول مطلعها :
فضيق الحبل واشدد من خناقهم فربما كان في ارخائه ضرر
أقدِمْ فأنتَ على الإقدامِ مُنطَبِعٌ وأبطُشْ فأنت على التنكيل مُقتدر
هناك تعليقان (2):
السلام عليكم
الحديث عن الجواهري يذكرني بمظفر النواب الذي ملأ الدنيا حديثا وشعرا وضجيجا عن حمد الذي أراده محررا للعراق ولا ادري ممن يحرره ؟ وهو بيد أبناءه ! واليوم وبعد ان ظهر حمد ممتطيا الدبابة الاميركية غازيا ومحتلا لاذ صاحبنا بالصمت كأهل القبور !!لم يعد يتحدث عن تحرير العراق !!!!! إنا لله وإنا إليه راجعون هو حسبنا ونعم الوكيل
ياريت عدنة لو بس واحد مثل الحصري!
شكراً كريم على الرد المفحم وشكراً نبض العراق على الموضوع الجميل الفاضح لهم ولألاعيبهم.
إرسال تعليق