إنه نبض يمتد لألاف السنين تراثا وتاريخا وحضارة . لنتكاتف جميعا من أجل أن نعيد الحيوية لنبض عراقنا بعد ان جثم المحتل وعملاءه على الصدور ...

السبت، مايو 09، 2009

صحوة ضمير متأخره! في الذكرى السادسة للاحتلال.. نعم تآمرنا على وطن!! ... نصير عواد ....

عندما دخلت البيت الواقع على أطراف مدينة لاهاي الهولندية وجدت نفسي بين عشرات العراقيين من اليساريين والمثقفين وأصحاب اللحى المدججين بالخواتم والمسابح وأجهزة الموبايل، بعد ذلك دخل ثلاثة أجانب تعلن عنهم أناقتهم ولغتهم وبشرتهم البيضاء (ثلاثة أمريكيين أحدهم من أصل يوغسلافي) وهذا الأخير خبير بحرب البوسنة والهرسك. ثم بدءوا محاضرتهم عن كيفية إسقاط الأنظمة البالغة القسوة والقوة. فاتني القول أن ما أرويه لكم حدث قبل الاحتلال الأمريكي للعراق عندما وجه الدعوة لنا الصحفي (إسماعيل زاير) بعد إلحاح لم نعرف أسبابه قبل غلق الباب خلفنا.

تهامس الأمريكيون الثلاثة فيما بينهم وبادر أحدهم لرسم مجموعة من الدوائر على لوح أعد لذلك ثم ملء الدوائر بالأسماء والمواقع (القصر الجمهوري، قادة الصف الأول، عائلة صدام وعشيرته، الضباط الكبار، السياسيين المقربين من مصدر القرار، العامة من الحزبيين، المتذمرين...) وانطلق أشبه بأستاذ لمادة الرياضيات يشرح بالتفصيل العلمي والعمليات الحسابية أساليب وطرق التعامل مع الدوائر الخارجية والضعيفة واختراق الدوائر القريبة من المركز وصولا إلى الدائرة المركزية لغرض عزلها وتفتيتها، منوّها إلى أن الدائرة المركزية كلما تصلّبت أكثر لا يعني ذلك قوتها ومنعتها وقد يكون انهيارها سريع وكارثي. كان صمت النخبة التي أجلس وسطها خرافيا لغرض الاستماع والاحترام والالتزام. أما أنا فكان لصمتي وبلادتي أسبابا من نوع آخر قد يكون أهمها عدم اهتمامي بمادة الرياضيات وبالتالي عدم فهمي لدور الرياضيات في العمل السياسي وفي إسقاط الأنظمة. لقد أفنيت عمري مع حزب يساري يبحث في الصراعات الطبقية والتحليلات السياسية والاقتصادية طريقا للتغيير الاجتماعي وليس له أرث في التآمر بل لا يجيد حتى مبدأ التوافق السياسي مع القوى المناوئة ويعده بعضهم انتهازية. أحسست بأن فكرة الدوائر تبطن سخرية مني ومن أفكاري إضافة إلى أنني كنت قلقا مما سيقوله الضيفان الآخران فيما لو جاء دورهما في الكلام وعن أي علوم أخرى سيتحدثان لغرض إسقاط الأنظمة الديكتاتورية. ألتفت حولي في لجة اللحى والعطور فوجدت أبناء جلدتي منهمكين في تسجيل ملاحظاتهم وأسئلتهم ثم بدءوا يتنططون ويحاورون بإنجليزية ركيكة وسبابات منتصبة كطلاب يبالغون بجديتهم وحرصهم في تحضير واجبهم البيتي. كنا في مركب واحد وبيت واحد نتآمر وابتسامات الرضى على شفاهنا، فالتافه في نظر التافه عبقري والخائن في نظر الخائن وطني. إلا أنني لم أشعر براحة البال ولا أدري كم استغرقت من عمري تلك الأمسية الثقيلة بعد أن أحسستني كقملة ليس لها ما تفتخر به، ولكني كعادتي في الندوات الخانقة أنتظر فترة الاستراحة للانسحاب بهدوء وكرامة. عندما هممت بالخروج استوقفني صاحب الدار مستفهما عن سبب خروجي مبكرا فتحججت بمشاغل البيت والعائلة وكان الكذب واضحا في كل حرف أنطقه، فحدثني بعتب وشفقة على حالي وسألني أن متى يئن الأوان كي أستفيد من تجربتي وحياتي وأن أطور أفكاري القديمة فالعصر قد تغير والوجوه كذلك وحتى الأفكار الماركسية والدول الاشتراكية أصابها ما أصابها. ولكنني كنت أشبه بفلاح مسكين حاصرته الحجج والحاجات ورائحة الكباب وبات لا يملك أكثر من جملتين عاريتين فقلت لصاحب الدار:

- يبدو أنك لا تملك شيئا وتخاف أن تخسره.

فأجابني بيأس وشفقة على حالتي والابتسامة لا تفارق محياه:

- وأنت يا نصير ما الذي تخاف أن تخسره؟

فقلت كمن لا يملك جملة أخرى.

- أنا من عائلة شهداء.

كنت قلقاً من استمرار الحوار عند باب الدار فلقد كنت مختنقا وجعبتي خالية من الأفكار والتبريرات ولا أستطيع التمييز بين الشجاعة وبين الوقاحة في حديث مودعي حتى سمعت الصوت الواهن للشيخ المريض الصحفي (جاسم المطير) يطلب مني مساعدته بالخروج وإيصاله إلى بيته ولا أدري إن كان (المطير) مثل حالتي لا يفهم في الرياضيات والدوائر أم أن مساميره ستروي لنا أشياء أخرى في قادم الأيام.

في اليوم الثاني حيث لم ينقض من الحزن شيء كنت وحيدا في البيت أفكر بالأمريكيين الثلاثة عندما رن جرس التلفون وحدثني شخص بلكنة عراقية مهذبة ومحسّنة وكأن صاحبها من أصول مسيحية أو كردية أو من عراقيي الخارج الذين ولدوا في المنفى وتنقلوا بين دول عربية وأجنبية كثيرة أثر في لهجتهم العراقية. حدثني بأدب جم من دون ذكر أسمه وطلب مني أن يكمل كلامه حتى النهاية وإن لم يعجبني الكلام ولم نتفق على شيء نستطيع معا إنهاء المكالمة التلفونية. حدثني بإسهاب عن أخواي الشهيدين في كردستان العراق ذاكرا أسماءهما ومواقفهما البطولية وهمس عن علاقتي المرتبكة بالحزب الشيوعي العراقي بعد خروجي من كردستان العراق ثم عرج إلى عائلتي في مدينة الديوانية وموت واختفاء أخوتي هناك وحال المقهى (كَهوة عواد الشطاوي) الذي نسترزق منه وكيف كان منطلقا للمظاهرات والتجمعات التابعة للحزب الشيوعي العراقي في سبعينيات القرن الماضي. وعندما أدركت أن المتكلم المهذب يعرف عني الكثير رجوته الاختصار ودوائر الأمريكيين الثلاثة لا تفارق ذاكرتي، فقال ما مضمونه "أن العراق مقبل على تغيير كبير وتاريخي ونحن وبسبب الانقطاع الطويل عن الوطن لا توجد لدينا خيوط اتصال مع الشارع العراقي ونحتاج إلى فتح مقرات ومكاتب في مدن الجنوب والوسط ونبحث عن أشخاص معروفين في هذه المدن ولديهم عائلات معروفة وعلاقات طيبة ويجيدون الكلام والإقناع".

فسألته والألم يعتصرني:

- إذا أنا مثلما تقول من عائلة شهداء ونضال وسياسة فهل مثلي يصلح لهكذا مهمة؟ فقال:

- لا تقلق سندفع راتبين واحدا لك في العراق لتسيير الأعمال والثاني لعائلتك في هولندة. فقلت له:

- قل لي بصراحة تريدونني (سياسي لو عميل)؟ فقال:

- أنت لا تصلح للعمالة.

لا أدري لماذا لم أستطع شتمه ولم أغلق التلفون بوجهه هل لأنه كان مؤدبا ولبقا أم أنني أردت يومها أن يبقى الباب مواربا تختفي خلفه ذات إنسانية تعج بالمتناقضات. شتمت النزاهة وتحولت إلى نفسي احتقرها واجلدها بالأسئلة، لماذا اختاروني أنا لهذه المهمة دون غيري لو لم يجدوا فيّ بذرة لذلك تعكسه ثرثرتي وطموحاتي؟ وهل اتصلوا بغيري من المنفيين والسياسيين القدامى؟ وهل وافق أحدهم على المهمة؟. كنت أدور مع الأسئلة في غرف البيت متحاشيا وجهي في المرايا وقلقا من عودة زوجتي والأطفال أن يجدونني بهذه الحال، لأني قد أفرغ ضعفي ونذالتي في صحن براءتهم. عندما وصلوا كنت شارد الذهن والنظرات فسألتني زوجتي ماذا جرى؟ هل ينقصك شيء؟ فطلبت منها أن لا ترفع سماعة التلفون وأن تقلل المرايا في البيت ثم صعدت إلى الطابق العلوي وأغلقت الباب خلفي.

بعد أسابيع خرجت من عزلتي باحثا في ذاكرتي عن أسم لصديق أو رفيق أحكي له مخاوفي ومعاناتي من دون أن يحسبها ثلمة أو يستثمرها ضدي في مستقبل مجهول، فسمعت أن سياسيين عراقيين وغير عراقيين قدموا من أمريكا وكندا وسوريا وإيران إلى هولندة وعملوا اجتماعات موسعة ولجان عمل متخصصة وأن هناك عسكريين قد تم تجميعهم واللقاء بهم منفردين في فنادق بعيدة عن العيون ليوضحوا لهم أسرار الدوائر والمستطيلات والمربعات.

بعد ستة أعوام من الاحتلال الأمريكي للعراق أتذكر الوجوه واللحى التي كانت تشتغل في الظلام لتدمير العراق من أجل مصالحها الحزبية. البعض من هذه الوجوه يقف اليوم خلف نوري المالكي في مؤتمراته الصحفية صغيرا في بدلته، وآخر يقدم نفسه في البرامج التلفزيونية على أنه(باحث في قضايا الإسلام المعاصر) من دون بحث أو كتاب، وثالث ترأس جريدة الدولة الرسمية ووعدوه بقناة فضائية، وآخرون تسربوا إلى دهاليز الدولة الجديدة وخططها الطائفية والحزبية، وأنا ما زلت أتساءل هل للتآمر والخيانة معان لم تدركها بعد روحي التي انتشرت السذاجة في طيبتها؟.